
* رفض “مبارك” التفاوض حول بناء “سد النهضة” من الأصل
* تجاهلت دول المنبع الرأي المصري واستمرت في مفاوضات بناء السد
* تدخلت الدبلوماسية الشعبية بعد الثورة وفشلت
* فشلت مصر في تحديد ما تريده من مفاوضات السد
* المفاوضات الجديدة لا تحمل أي رؤية جديدة لحل الأزمة
* يجب أن تعمل مصر على ترقية الأساس القانوني لتضمن المشاركة بتشغيل السد
* ضعف الإدارة المصرية هو الميراث المشترك للحكومات المتتالية في التفاوض
* اختلاف السياسات والحكومات فرّقت بين المصالح السودانية والمصرية
* انسحاب “مبارك” من المحيط الأفريقي لم يكن مُبرَّرًا
* أطراف عدة احتلت الدور المصري في أفريقيا أبرزها الصين والولايات المتحدة
البحيرات الجوفية في مصر مصدرها مياه النيل ولا تصلح كبديل
دخلت مصر مرحلة الفقر المائي، هذا الإعلان الرسمي الذي رافقه بعض الإجراءات التقشفية، ارتبطت بأزمة “سد النهضة” وسرعة بنائه، وبدء التخزين فيه بشكل مباشر، وبالطبع مع المفاوضات المتعثرة منذ أعوام، ما يجعل تلك الأزمة محل تساؤلات كثيرة.
حاول الدكتور “خيري عمر” – أستاذ العلوم السياسية بجامعة “صقريا” – نقل ما يحدث في حوار موقع “الثورة اليوم” معه، والإجابة على التساؤلات المختلفة حول سبب الأزمة المستمرة منذ عهد الرئيس المخلوع “حسني مبارك” حتى الآن، والتي أرجعها لضعف الإدارة المصرية، وسبب تراجع مصر في أفريقيا، وهل عودة الدور المصري يساهم في حل تلك الأزمة، وما نتائج المفاوضات الحالية، وما سبب تمسُّك مصر بمسار واحد فقط في التفاوض، وهل هناك مسارات بديلة.
وإلى نص الحوار :
ما هي النقاط الخلافية بين مصر وإثيوبيا حول “سد النهضة”؟
في المرحلة الأولى لبناء السد كانت مصر تراه يشكل تهديداً للمصادر المائية، ورفضت حينها التفاوض حول بناءه من الأصل، هذا الموقف كان في فترة حكم “مبارك”، والذي رفض مناقشة الأمر مع رئيس الوزراء الإثيوبي آنذاك “ميليس زيناوي”، وتحديدًا في مايو 2010، وكان هذا يُمثّل الرأي السائد في السياسة المصرية اتجاه النيل، والتي كانت ترتكز على فكرة الحقوق المكتسبة، كأساس لبناء موقف جديد.
هذه النقطة كانت تُمثّل نقطة خلاف حاسمة مع دول المنبع، والتي رفضت بشكل صارم الرأي المصري، واستمرت في مفاوضات مبادرة حوض النيل، واتفاقية “عنتيبي”، وجاء بعده بدء إثيوبيا في بناء السد مارس 2011، في تلك الفترة لم يكن هناك رأي واضح للسياسة المصرية للتعامل مع بناء السد، واعتمد التعامل في المرحلة الأولى على الدبلوماسية الشعبية، وهو خيار كان بعيدًا عن السياسة، ولم تستطع هذه الوسيلة استكشاف مكامن الخطر في السياسة الإثيوبية.
نتج عن الدبلوماسية الشعبية تشكيل لجنة مشتركة، لم تقم بمهامها طوال عام ونصف، ولم يكن لها تأثير على السياسة الإثيوبية، واستمر هذا الوضع عندما تشكّلت لجنة ثلاثية أخرى بداية من منتصف 2012، ولكنها كالسابقة لم تستطع الحصول على أي بيانات عن “سد النهضة”، واستمر هذا الوضع حتى نهاية 2013، حيث تم تشكيل لجنة سداسية أخرى، كانت مهمتها في تقييم الشروط الفنية، ليس فقط لبناء السد، ولكن لتقييم الأضرار التي يمكن أن تحدث في مصر.
خلال فترة عمل اللجنة السداسية، وحتى عام 2015 لم تكن هناك سياسة مصرية واضحة تُحدّد المطلوب من إثيوبيا، وبالتالي كان هذا يُشكّل نوعاً ما ارتباك أمام التغيرات المتسارعة.
ورغم عقد الاتفاق الإطاري بين مصر وإثيوبيا، إلا أن مصر لم تستطع تحديد ماذا تريد من بناء السد، سوى التطلع للاتفاق على سنوات المنع، وليس الحديث عن مواصفات السد، وحجم التخزين، وبالتالي انحصرت المشكلة وفق وجهة النظر المصرية في كيفية ملء خزان خلف “سد النهضة”، وكانت أقل اهتمامًا بسياسات التشغيل على مدى الأعوام المقبلة، وفي رأيي أن هذا يعكس عدم وجود رؤية مستقرة في هذه المسألة الحيوية، ويمكن إرجاع ذلك لفترات الارتباك التي شهدتها مصر، على مدى الفترات الماضية.
ويمكن الإشارة إلى أن التطور الحادث في هذه الفترة هو أن السياسة المصرية باتت تُدرك أن أزمة “سد النهضة” ليست فنية فقط، وأنها أزمة سياسية، وهذا يحدث للمرة الأولى منذ بداية الأزمة، وظهر ذلك عندما تحدَّث وزير الري في 15 نوفمبر الماضي، عن طبيعة المشكلة كمشكلة سياسية، وفي تقديري أن هذا تطور يختلف عن السنوات السابقة.
من الناحية الفنية كانت الرؤى المصرية تسير على بديلين؛ الأول: هو ضمان تدفق أربعين مليار متر مكعب سنوياً من تصريف السد، أو الاحتفاظ بمنسوب 165 متر عند “السد العالي” في مصر، باعتباره المخزون الآمن للمياه في مصر، هذه المقترحات لم تقبلها إثيوبيا، ورأت أنه في سنوات الجفاف لا يمكن ضمان الوفاء بالأربعين مليار متر، كما أنها ردّت على الحل الآخر في أنه لا يمكن تشغيل “سد النهضة” وفقًا لوضع “السد العالي”، حيث يكون “سد النهضة” مجرد خزان مُتقدّم لمصر.
* كيف ترى تقدم السياسات والرؤى المصرية اتجاهات السد حاليًا؟ وكيف تنعكس على المفاوضات الجارية في واشنطن الآن؟
في المفاوضات الأخيرة التي تجري في واشنطن، ويحضر فيها البنك الدولي والولايات المتحدة والمراقبين، الواضح منها أن السياسة المصرية لم تقترح رؤية مختلفة سوى أنها تحاول إحضار شهود دوليين يمكنهم لاحقًا المساعدة في الوصول لتقنين منصف لتشغيل “سد النهضة”.
ولكن ما حسَّن من الوضع في جولة المفاوضات التي جرت في نوفمبر الماضي، هو قبول إثيوبيا بالرؤية المصرية بالتخزين على مدى سبع سنوات، وهو ما يمكن اعتباره انتصاراً أو نجاحاً مؤكداً للسياسة المصرية، وفي الجولة التالية مع بداية ديسمبر تمسّكت إثيوبيا بموقفها السابق من أن السد هو سد إثيوبي لا يحق لأي دولة أخرى المشاركة في إدارته أو فرض وضع قانوني أو سياسي عليه، وبالتالي تخزين سبع سنوات لم يكن حلًا أو لا يُشكّل حلاً مناسباً للتغيرات الهيدروليكية على نهر النيل.
بمعنى أن دورات الجفاف التي تمر بها الهضبة الإثيوبية، سوف تُشكّل تحدّيًا في المستقبل، حيث سيستوعب “سد النهضة” كل الموارد المائية الآتية في تلك السنوات، وبالتالي ستقوم مصر بالمطالبة مجدداً بتحديد كيفية الملء، وكيفية التشغيل، وبهذا المعنى يُميّز الخبراء بين أهمية التفاوض على الملء الأول، وفترات الملء التالية بحيث أن مفاوضات الملء التالية ستكون أكثر تأثيراً من فترات الملء الأولى.
والفكرة الأساسية التي يجب أن تعمل عليها مصر هي تتعلق بترقية الأساس القانوني لوضع “سد النهضة”، بما يضمن المشاركة في تشغيل السد، وهذا الجانب يرتكز على التعريف القانوني للمجاري المائية الدولية باعتبارها تُماثل اتفاقيات الحدود الدولية، وبالتالي إذا لم يكن هناك اتفاق واضح أو معاهدة تخص إدارة أو تشغيل “سد النهضة” فسوف يتسبّب في انخفاض تأثير السياسة المصرية على إدارة الموارد المتعلقة بالمياه من هضبة الحبشة.
ما هي بدائل السياسية الخارجية المصرية للتعامل مع أزمة “سد النهضة” في رأيك؟
تتوفر لدى الخارجية المصرية مساران غير التفاوض وفق مستوى قانوني منخفض “المبادئ”، والمساران هما،
الأول: أن يتم تفسير إعلان المبادئ في إطار الاتفاقية الدولية للمياه والمجاري المائية المودعة بالأمم المتحدة، بحيث يكون تفسير بنود الاتفاق الإطاري بآلية دولية لمواجهة إثيوبيا، هذا الأمر يمكن أن تدعو إليه مصر في بعض المراحل الأخرى، المراحل التالية، وهناك من السوابق القضائية التي تعاملت مع أحواض النيل أو الأنهار كوحدة واحدة أو إرث مشترك بكل البلدان التي يمر بها، وأنه يجب إدارتها كمِلك مشترك، والتشاور وعدم الضرر.
المسار الثاني: وهو المسار الذي لم تشتغل أو تنشط في اتجاهه الدبلوماسية المصرية حتى الآن، وهو أنه يمكن القيام بحملة دبلوماسية لدى الدول والمحافل الدولية بحيث تُعيد تعريف المشكلة وتطرح الحلول، سواء في إطار القانون الدولي أو الضغوط السياسية.
حتى الآن الضعف في الإدارة المصرية، هو الميراث المشترك لكل الحكومات التي بدأت التفاوض على مياه النيل منذ تسعينيات القرن الماضي، ولا تتحمّله حكومة دون غيرها، ولذلك من المهم أن تعمل مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية بشكل متساوٍ حتى تلغي الضرر المحتمل عن التغير في السياسة المائية، أو تقنع الدول الأخرى بأن هذه المسألة ليست خلافية داخل مصر.
هل يمكن أن تتدخل مصر عسكريًا في إثيوبيا؟ وهل الحل العسكري قادر على إنهاء الأزمة أو الوصول بها لحل؟
بشكل عام في أزمات المياه الدولية الحلول العسكرية ليست مُرجَّحة؛ لأن هناك طرقاً دولية لحل الخلاف حول المياه؛ ولأنها لا تصل بشكل عام في كل التجارب السابقة لتكون أزمة حادة، ويتم تخفيف الأثر بشكل عام، وأن الدول التي تضرّرت حاولت تحسين سياسات الري، وتحسين القطاع الزراعي ليتغلّب على أزمة المياه بواسطة حزمة من الحلول كما حدث في تركيا حين تم إنشاء خزانات “أتاتورك”، وحدثت ضجة حولها، وحين امتلأت زالت المشكلة.
تشير تعليقات المسؤولين السودانيين لاختلاف منطلقاتهم مع مصر في أزمة السد، فما سبب تباعد المصالح السودانية المصرية؟
ليس صحيحاً أن تتطابق المصالح المصرية والسودانية، هناك اختلاف في النظر لمنافع ومضار السد، النظرة المصرية واضحة في هذا الشأن، أما السودانية فهي ترى أن السد سوف يُطوّر قطاع الزراعة ويُحسّن أداء قطاع الكهرباء، وهناك حديث على أن مجاري النيل الأزرق يمكن أن تتحوّل للري الدائم بدلاً من الزراعة الموسمية بالإضافة لمنافع أخرى، وعادة ما تكون دولة الممر أقل تضرراً من التغير في إدارة الأنهار.
سياسياً كان يتوقَّع المصريون مساندة السودان في أزمة النيل، ولكن لدواعٍ كثيرة من اختلافات سياسية واختلاف الحكومات صارت النظرة السياسية أكثر اهتماماً بالشؤون الداخلية، بينما صارت النظرة للمصالح الأخرى في الاهتمامات الثانوي.
* انسحاب مصر الضخم من أفريقيا تظهره توتر علاقاتها مع محيطها الأفريقي، ما سبب هذا الانسحاب؟ وهل من الممكن إعادة الدور المصري لأفريقيا مرة أخرى؟
الانسحاب المصري في أفريقيا بدأ منذ الثمانينيات، وكان انسحاباً غير مفهوم؛ لأن مصر لم تكن تنسحب لتتوسّع في دائرة أخرى، ولكن كان يُعبّر عن سياسة خارجية انكماشية ظلّت تتراجع على مدى السنوات السابقة، وبالطبع هذا أوجد حالةً من التباعد والفراغ، وبالتالي عدم التأثير على العلاقات المصرية الأفريقية، في الوقت الذي دخلت أطراف أخرى كانت أكثر تأثيراً مثل الصين والولايات المتحدة وحتى جنوب أفريقيا وإثيوبيا ونيجيريا، وأصبحت تسبق الدور المصري، وليست “إسرائيل” فحسب.
حاول “مبارك” تحسين الوضع في أفريقيا، ولكن لم يتمكّن من ذلك، ومنذ عامين تحاول مصر العودة لأفريقيا، وهي في هذا السياق تضع برامجاً لتبادل برامج تعليمية وتوسيع دور الأزهر والمِنح، ولكن رغم أهمية هذا التوجه ثماره ستستغرق وقتًا طويلًا، ولكن بشكل عام هذه البداية يمكن أن تكون جيدة في معالجة آثار الانسحاب والتراجع المصري في أفريقيا.
وبالطبع التراجع في أفريقيا ساهم في تهميش الدور المصري في تقرير سياسات نهر النيل، فحتى الوقت الراهن الدبلوماسية المشتركة بين أوغندا وكينيا وتنزانيا قامت بإقرار مبادرة “عنتيبي” بدون موافقة مصر، وبالتالي كان على مصر أن تنتبه أن دول أفريقيا تشهد تغيراً لابد من تفهمه حتى يمكن التعاون معه في السنوات القادمة.
كيف ترى تقليل الدكتور “فاروق الباز” من أهمية النيل، عبر التأكيد على وجود بحيرات من المياه الجوفية تحت الأراضي المصرية، رغم تأكيدات علماء آخرين عدم صحة ذلك؟
الآراء الفنية تقول: إن البحيرات الجوفية الموجودة في مصر هي المخزون الاستراتيجي لنهر النيل، وليست متجددة، وبالتالي إذا انقطع المصدر الرئيسي سوف ينخفض هذا المخزون، أي أنه لا يمكن التعويل عليها كحل، وحتى التعويل عليها لا يعني التفريط في الحقوق المائية.
في رأيك.. كيف ستنتهي أزمة “سد النهضة”؟ وهل ستصل المفاوضات الجارية لنتيجة؟
يمكن أن تصل مصر إلى نتيجة إذا تمّت ترقية التعامل القانوني مع هذه الأزمة، وفي ذات الوقت نؤكد على أنها أزمة سياسية، باعتبار أنها تؤثر بشكل واضح أو تتسبّب بضرر واضح إذا تم تنفيذ الرؤية الإثيوبية.